يقول ابن القيم: (والعلم بمخبر الخبر لا يكون بمجرد سماع حروفه) فالعلم بالمخبر لا يكون بمجرد سماع الحروف، كما يظن المتكلمون أن هذه الأخبار إنما هي مجرد حروف نقلت، ثم يواصل قائلاً: (بل بفهم المعنى مع سماع اللفظ) أي: فقول المتكلمين بأنه لو ثبت تواتر هذا الحديث فإن دلالته اللفظية لا تفيد اليقين جوابه أنه ليس المقصود في الحديث اللفظ فقط، بل أيضاً المعنى، فإذا اجتمع في قلب المستمع لهذه الأخبار العلم بطريقها، ومعرفة حال راويها، وفهم معناها، حصل له العلم الضروري الذي لا يمكنه رفعه أو دفعه، وهذا والحمد لله واقع في أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجتمع فيها العلم بطريقها، وحال رواتها وفهم معناها، ولهذا كان جميع أئمة الحديث الذين لهم لسان صدق في الأمة قاطعين بمضمون هذه الأحاديث شاهدين بنسبتها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جازمين بأن من كذبها وأنكر مضمونها فهو كافر، ومن له اطلاع على سيرتهم وأحوالهم يدرك أنهم كانوا من أعظم الناس صدقاً وأمانة وديانة، وأوفرهم عقولاً، وأشدهم تحرياً للصدق، ومجانبة للكذب رضي الله تعالى عنهم، ولم يكن أحد منهم يحابي لذلك أباه ولا ابنه ولا شيخه ولا صديقه، فـ لا يمكن أن يكذب أحد من علماء الحديث بمجرد أن أباه يريد ذلك أو شيخه أو صديقه، فهم الشهداء في هذه الأمة، وهم من حرروا الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تحريراً لم يبلغه أحدٌ سواهم لا من الناقلين عن الأنبياء ولا عن غير الأنبياء، وقد شاهدوا شيوخهم على هذه الحال، وشيوخهم شاهدوا من فوقهم كذلك حتى انتهى الأمر إلى من أثنى الله عليهم أعظم الثناء وهم الصحابة، فكانت رواياتهم طبقات عن طبقات، بخلاف غيرهم من الأمم كـالنصارى فإنه لا يوجد لدى النصارى وهم أقرب الأمم عهداً -لأن اليهود قبلهم- سند واحد متصل إلى عيسى عليه السلام، بل الأناجيل ليست منقطعة السند فقط بل منقطعة اللغة؛ لأن الأناجيل لم توجد إلا باللغة اليونانية، والمسيح عليه السلام إنما نشأ بين بني إسرائيل وهم يتكلمون اللغة العبرانية، فما العلاقة بين اللغة العبرانية واليونانية؟ ومن الذي ترجمها؟ وكيف نقلها؟ ومتى عرفت؟ الجواب أنه قد عرف بعضها بعد مائتي سنة من وفاة المسيح ورفعه إلى الله تعالى، حينها عرف أن لوقا له إنجيل ويوحنا كذلك وفلان له إنجيل، وهذا لا يمكن أن يكون كلام الله، فالفرق كبير جداً بينه وبين القرآن الذي قال الله عنه: (( إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ))[الحجر:9] وقال: (( لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ))[فصلت:42] وهذا اختصاص من الله سبحانه وتعالى لكتابه ولسنة نبيه صلى الله عليه وسلم التي هي تبع له.
إذاً يقول الشيخ رحمه الله: هؤلاء الصحابة الذين اختارهم الله تعالى وجعلهم شهداء من تأمل سيرهم أفاده علماً ضرورياً بصدق ما نقلوه عن نبيهم أعظم من أي علم ينقله كل طائفةٍ عن أهلها، وهذا أمر وجداني عندهم لا يمكنهم جحده، بل بمنزلة ما تحسونه من الألم واللذة والحب والبغض، حتى أنهم يشهدون بذلك ويحلفون عليه، ويباهلون من خالفهم عليه، لأنه أصبح عندهم من اليقين أنه صلى الله عليه وسلم قد قال هذه الأحاديث، وأما قول هؤلاء القادحين في أخباره وسنته بأنه يجوز أن يكون رواة هذه الأخبار كاذبين فهو بمنزلة قول أعدائه صلى الله عليه وسلم بأنه يجوز أن يكون الوحي جاءه من شيطان أو كاذب، فـ قدح المتكلمين في الأخبار هو مثل قدح الكفار فيمن أبلغ الرسول الوحي وهو الأمين جبريل صلوات الله وسلامه عليه.
يقول ابن القيم : (وكل أحد يعلم أن أهل الحديث أصدق الطوائف، ثم قال: هذه كلمة عظيمة لـ عبد الله بن المبارك يقول: [وجدت الدين لأهل الحديث] أي: في الطائفة المتبعين للحديث الذين حفظوه علماً وعملاً ([والكلام للمعتزلة]) أي: وأشد الناس كلاماً وبحثاً في علم الكلام وفروعه هم المعتزلة ([والكذب للرافضة]) أي: وأكذب خلق الله الرافضة، فالرافضي يختلق ما يشاء في لحظة، ويفتري الحديث والفضائل كما يشاء ([والحيل لأهل الرأي]) كبعض الأحناف كـالكرخي ، وليس كل حنفي يعمل بالحيل، بل بعضهم يأتي إلى حكم من الأحكام وهو حرام فيتحيل في تحليله أو حلال فيتحيل في تحريمه في لحظة، ([وسوء التدبير لآل أبي فلان])، لعله والله أعلم يقصد قوماً في عصره إما من الحكام أو من ولاة الأمر.
إذاً: هذان النوعان: المتواتر لفظاً ومعنى، والمتواتر معنى فقط هما عند الأمة بهذه الدرجة العظيمة من الحجية.
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.